### **"الأذن الهادئة" لريموند أنتروبس: رحلة عميقة في عالم الصمم والهوية والشعر**
"أنت لا تبدو أصم". هذه العبارة، التي
قد تبدو للوهلة الأولى عابرة أو حتى مجاملة، هي في الحقيقة تعليق قاسٍ ومُفرِغ
للهوية، تكرر على مسامع الشاعر البريطاني الجامايكي الحائز على جوائز، ريموند
أنتروبس. في مذكراته الاستثنائية والمؤثرة **"الأذن الهادئة: تحقيق في الصوت
المفقود" (The Quiet Ear: An
Investigation of Missing Sound)**، لا يكتفي أنتروبس بمشاركة تجربته الشخصية، بل يقدم تحقيقاً
أدبياً وثقافياً واجتماعياً شاملاً في معنى أن تكون أصماً في عالم مهووس بالصوت.
![]() |
### **"الأذن الهادئة" لريموند أنتروبس: رحلة عميقة في عالم الصمم والهوية والشعر** |
- يُعد هذا الكتاب، الذي حاز على إشادة نقدية واسعة، أكثر من مجرد سيرة ذاتية؛ إنه استكشاف شجاع
- ومستنير لمفاهيم اللغة، والتواصل، والتحيز، والفن، وكيف تتشابك كل هذه العناصر لتشكل هوية
- فردية وجماعية.
#### **من هو ريموند أنتروبس؟ صوت يجمع بين عالمين**
لفهم عمق "الأذن الهادئة"، لا بد من
فهم رحلة مؤلفه. وُلد ريموند أنتروبس لأم إنجليزية وأب جامايكي، ونشأ بين ثقافتين
وهويتين. أضيفت إلى هذا المزيج طبقة أخرى من التعقيد عندما تم تشخيصه بالصمم في سن
السادسة، وهو تشخيص تأخر بسبب افتراضات خاطئة حول صعوبات التعلم لديه. هذه النشأة
المركبة منحته منظوراً فريداً، حيث وجد نفسه دائماً يتنقل بين عوالم مختلفة: العالم
المسموع والعالم الصامت، الهوية البريطانية والهوية الكاريبية، عالم الشعر الشفهي
وعالم لغة الإشارة.
- يستحضر أنتروبس في كتابه هذه الازدواجية، موضحاً كيف أن الصمم ليس مجرد غياب للصوت، بل
- هو تجربة حسية وبصرية مختلفة تماماً للعالم. يقول في إحدى لحظات التأمل العميقة: **"احتجت
- لسنوات لأعيد صياغة صممي كميزة لا كخسارة"**. هذه الرحلة نحو التقبل الذاتي وإعادة التأطير
- هي العمود الفقري
للسرد، وهي التي تمنح الكتاب قوته العاطفية والفكرية.
#### **"الأذن الهادئة" تحقيق في طبيعة الصوت والصمت**
يتجاوز الكتاب السرد التقليدي للمذكرات ليصبح
تحقيقاً متعدد الأوجه. يستخدم أنتروبس تجربته كنقطة انطلاق للغوص في أسئلة أكبر
حول طبيعة السمع والإدراك.
**1. الصمت ككيان وليس كغياب:**
من أبرز أفكار الكتاب هي معالجة الصمت. في
الثقافة الغربية، غالباً ما يُنظر إلى الصمت على أنه فراغ أو نقص. لكن أنتروبس، من
خلال منظوره كشخص أصم، يقدمه ككيان له وزنه وملمسه ومعناه. يستشهد بملاحظة طريفة
وعميقة في آنٍ واحد: **"هناك شيئاً ذا طابع إنجليزي في الطريقة التي يمكن
للصمت أن يحمل بها أي شعور ثقيل مكتوم"**. هنا، يصبح الصمت لغة بحد ذاتها،
قادرة على نقل مشاعر لا تستطيع الكلمات التعبير عنها.
**2. مواجهة التحيز والجهل (Audism):**
يُعرّي الكتاب بصدق مؤلم التحيزات الدقيقة
والصريحة التي يواجهها الصم. عبارة "أنت لا تبدو أصم" هي مثال صارخ على "التمييز
السمعي"
(Audism)، وهو
الاعتقاد بأن القدرة على السمع تجعل الشخص متفوقاً. يوضح أنتروبس كيف أن هذه
التعليقات، حتى لو قيلت بحسن نية، تمحو جزءاً أساسياً من هويته وتفرض عليه قالب
المجتمع المسموع لما "يجب" أن يكون عليه الشخص الأصم. ينسج ببراعة بين
التحيز القائم على الإعاقة والتحيز العرقي الذي واجهه، مقدماً رؤية تقاطعية نادرة
ومهمة حول كيفية تفاعل أشكال التمييز المختلفة.
**3. الشعر كوسيلة للمقاومة والترجمة:**
بالنسبة لأنتروبس، أصبح الشعر هو الجسر الذي
يربط بين عوالمه. إنه الأداة التي يستخدمها لترجمة تجربته الصامتة إلى لغة يفهمها
العالم المسموع، وفي الوقت نفسه، هي مساحته الخاصة التي يحتفي فيها بثرائها الحسي.
يتضمن الكتاب تحليلاً نقدياً لقصائد تناولت الصمم، مثل قصيدة الشاعر تيد هيوز. ينتقد
أنتروبس بذكاء كيف أن الشعراء المسموعين غالباً ما يصورون الصمم كفقدان مأساوي أو
مجرد استعارة، متجاهلين التجربة الحية والمعقدة للصم. ومن خلال ذلك، يستعيد
السردية ويؤكد على أهمية أن يروي أصحاب التجارب قصصهم بأنفسهم.
#### **أبعاد اجتماعية وسياسية صوت من لا صوت له**
"الأذن الهادئة" ليس مجرد تأمل شخصي،
بل هو أيضاً نقد اجتماعي لاذع. يسلط أنتروبس الضوء على الإخفاقات النظامية التي
تواجه مجتمع الصم، خاصة في مجال التعليم. الأرقام التي يذكرها صادمة وتكشف عن أزمة
حقيقية: **95% من الأطفال الصم في جامايكا يصلون إلى سن البلوغ وهم أميون، بينما
تبلغ النسبة في بريطانيا حوالي 70%**.
- هذه الإحصائيات تحول الكتاب من مجرد مذكرات إلى بيان سياسي. يتحدث عن تجربته في مدارس
- الصم، ويصف اللحظات المؤثرة والمفجعة، مثل حديثه مع مدير مدرسة أخبره أن بعض الآباء
- يشعرون بالخزي من صمم أطفالهم، ويتحدثون عنهم كمن "ينوحون على مصابهم". هذه الشهادات
- تكشف عن الجذور العميقة للوصمة الاجتماعية التي تحيط بالصمم، وكيف أن هذه الوصمة تؤدي إلى
- إهمال تعليمي ومؤسسي
كارثي.
#### **سرد قصصي غني ومتنوع**
لإثراء نصه، لا يقتصر أنتروبس على قصته فقط. إنه
ينسج ببراعة حكايات عن شخصيات أخرى من مجتمع الصم، مما يضفي على الكتاب طابعاً
شمولياً. نتعرف على قصص ملهمة مثل:
* **الملاكم
الأصم ريس كاترمول:** وكيف استخدم صممه كميزة تكتيكية في الحلبة، حيث لا يتأثر
بصيحات الجمهور المشتتة.
* **المغني
الأصم جوني راي:** الذي واجه تحديات الأداء على المسرح، معتمداً على اهتزازات
الموسيقى وإحساسه بالإيقاع.
هذه القصص تكسر الصورة النمطية للشخص الأصم كشخص "عاجز" أو "قبيح"، كما شعر أنتروبس في بعض الأحيان، وتقدم بدلاً من ذلك صورة نابضة بالحياة عن التكيف والإبداع والقوة.
#### **لماذا "الأذن الهادئة" كتاب ضروري؟**
في نهاية المطاف، "الأذن الهادئة: تحقيق في
الصوت المفقود" هو عمل أدبي متعدد الطبقات. إنه مذكرات شخصية مؤثرة عن النضال
والانتصار، وتحليل ثقافي عميق لمعنى الصوت والصمت، ونقد اجتماعي قوي للأنظمة التي
تهمش المختلفين، واحتفاء بقوة الشعر كلغة عالمية قادرة على تجاوز الحواجز.
فى الختام
ريموند أنتروبس لا يكتب فقط عن الصمم، بل يكتب
عن التجربة الإنسانية في جوهرها: البحث عن الهوية، والنضال من أجل أن تُسمع،
والرغبة في التواصل الحقيقي. إنه كتاب يجبر القارئ على التوقف والتأمل في
افتراضاته المسبقة، ويدعوه إلى الاستماع بشكل مختلف - ليس فقط بآذانه، ولكن بقلبه
وعقله. إنه عمل أساسي لكل من يسعى لفهم تعقيدات الهوية الإنسانية وقوة الكلمة في
إعادة تشكيل العالم.
---
**تفاصيل النشر:**
* **الكتاب:**
الأذن الهادئة: تحقيق في الصوت المفقود
(The Quiet Ear: An Investigation of Missing Sound)
* **المؤلف:**
ريموند أنتروبس (Raymond
Antrobus)
* **الناشر:**
وايدنفيلد آند نيكولسون (Weidenfeld
& Nicolson)
* **تاريخ
الصدور:** 28 أغسطس
* **السعر:**
16.99 جنيه استرليني.